في عالم الكتب وفي رحاب المعرفة:
الأحاديث المفيدة:
حين كن يحول جلساتنا العائلية إلى فائدة فإنها كانت أيضاً ممتعة ومسلية، حتى أننا – ونحن صغار – كنا نترك اللهو لننضم إلى هذه الجلسات، وقد كان يلتقط كلمة من الحديث الدائر بيننا ليحوّل بها مسار البحث وينتقل إلى الموضوع المفيد.
قال أحدهم بالفصيح: هل تغلق الباب من فضلك؟ فجعل جدي من كملة (تغلق) مدخلاً إلى حديث طويل ممتع سائلاً عن الدولة التي نسبت إلى (تغلق) ومتى وأين قامت فدخلنا في التاريخ والأعلام حتى وصلنا إلى الدين وما حققته هذه الدولة بسبب تمسكها بالإسلام...
وكان في نهاية هذه الجلسات يرشدنا إلى الكتب التي تفصِّل ما طرح من معلومات، وربما حدثنا عنها وعن مؤلفها مشجعاً على الرجوع إليها.
المراجعة في الكتب:
كان جدي يهتم بالإجابة على أسئلتنا المختلفة، مسمياً لنا الكتب التي استفاد منها مثنياً على علم مؤلفيها مؤكداً المراجعة فيها، حتى حفظنا أسماء بعض الكتب وأسماء مؤلفيها، بل وموضوعاتها الرئيسية من فقه وحديث وتفسير ، ونظام الكتب في التبويب...، وكان يدعونا أحياناً إلى مراجعة أسئلتنا الفقهية والدينية – رغم صغرنا – فيسأل: ما موضوع السؤال (تفسير، تاريخ، فقه)؟ وفي أي كتاب نتوقع الإجابة؟.. ثم يحيلنا على مكتبته الواسعة ونبحث بإرشاد جدي حتى نصل إلى المسألة فنقرأ ويشرح..
قيمة الكتاب:
ما رأيت جدي يحب شيئاً حبه للكتب، ولما اضطرته الظروف مفارقة بلده وترك بيته لم يسأل عن شيء من متاع أو مال غير كتبه، كتب متحسراً: (دنيا طالب العلم مكتبته، ومكتبتي في الشام مودعة في خمسة وثمانين صندوقاً لم تفتح من إحدى عشرة سنة، ولست أدري أأكلتها الأرضة أم هي سالمة لا تزال؟ وأنا هنا محروم منها لا أستطيع الوصول إليها) ولعلها الآن قاربت الثلاثين عاماً.
لقد قال: إنه يقرأ في كل يوم ساعات، فإذا أقلّ القراءة يوماً قرأ مئة صفحة، وإني إذا حاولت استرجاع صورته تخيلته جالساً في زاوية مخصصة واضعاً نظارته ممسكاً بواحد من كتبه وقد حفت به أكوام من الكتب والمجلات والجرائد والأوراق مجمّعة على غير نظام تنتظر دورها للقراءة أو الفرز والتوزيع، هذه هي العدوى الأولى التي نشرها بين أهل بيته (حب الكتب).
والعدوى الثانية: احترام الكتاب والعناية به، حيث كان التعامل مع الكتاب علماً لا بد من إتقانه؛ لأنها نسخة واحدة قد يرثها الأبناء، أما تناول الكتاب من الرف فطريقته أننا نضع السبابة على الطرف العلوي من حرفه الخلفي ونميله برفق..., وتقليب الصفحات له فن آخر، كما كان يحظر علينا وضع قلم رصاص داخل الكتاب، أو نضع الكتاب مطوياً على الأرض... كما كان لا يسمح بخروج الكتاب خارج بيته إلا بظروف استثنائية وتحديد مدة، ثم يسأل المستعير عن كل ما قابله أو هاتفه، وربما ندم على استعارته.
فن القراءة:
يقول: (كنت طوال عمري عائشاً وحدي، أنيس كتابي، فكنت أمضي يومي – إلا ساعات المدرسة – في الدار لا أجد ما أشغل به نفسي وأملأ به فراغ حياتي إلا القراءة) ولقد تعلمت منه أن أقرأ كل يوم عدداً من الصفحات لا يقل عن عشرين – مهما كانت الظروف والمشاغل – فإني إن تعللت وتثاقلت عن المطالعة بسبب الظروف ما كنت لأقرأ أبداً؛ لأن الملاهي والصوارف لا تنتهي.
والطريقة الصحيحة التي علمنيها للقراءة:
1- أقرأ العنوان جيداً.
2- أنتبه لاسم المؤلف، فلا يصح أن أقرأ لأي كاتب، وقد سمى لنا بعض الكتّاب لا نقرأ لهم قبل أن يشتد عودنا كجورجي زيدان مثلاً.
3- أقرأ المقدمة بعمق، فهي تبين هدف الكتاب، ومحتوى الكتاب، والطريقة التي عرض بها المؤلف الأفكار...
4- أستعرض فهرس الكتاب فأستوعب محتواه وأحيط بمادته بنظرة سريعة شاملة.
5- أقرأ الخاتمة – إن وجدت – بعمق؛ لأنها الزبدة والمغزى.
وبهذا نأخذ فكرة عن مضمون الكتاب في زمن وجيز فإن أحببناه قرأناه أو تحولنا إلى سواه.
مهلاً قبل مغادرة القراءة:
نصيحتي لكم ألا تملوا من التربية بل ثابروا، وكرروا المحاولات، وليس شيء ينفع في التربية كالتكرار والمداومة على التوجيه.
إحدى الحفيدات مقصرة في دراستها رغم تميزها في مواهبها وقدراتها فكان جدي إذا رأى منها هذا العيب يقول:
ولم أرَ في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام
لقد ردد على مسمعها هذا البيت مئات المرات شهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام دون يأس، حتى استقام هذا الطبع فيها أو كاد.
وأرى مبتلاة بسرعة الكلام، فنبهها إلى ذلك العيب وأرشدها إلى إخراج كل حرف من مخرجه الصحيح مع إبطاء تدفق الكلمات، واتفق معها على أن تنطق كلمة واحدة كلما ضم أصبعيه وتصمت برهة ريثما يباعد بينهما، واستمرا هكذا سنوات عدة كلما اجتمع بها في الشام صيفاً ثابر على العلاج، حتى حسن كلامها.
وبعد:
فقد أهملت من تربية جدي الأمور العامة التي يشترك فيها معظم الوالدين، والتوجيهات التي يقدمها – عادة – الآباء للأبناء، وصرفت جهدي في تلمس تلك الملاحظات الصغيرة واللقطات العابرة التي بقيت عالقة في نفسي لإبداع جدي في عرضها.
إنها مواقف بسيطة تقع كل يوم في كل بيت مما يجعلنا لا نلقي لها بالاً ولا نعدها ذات شأن، لكن جدي نجح في اصطيادها فوضع منها منهجاً تربوياً متميزاً.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.