وما لي أدور وأسوق لك الأخبار، وعندنا شعراء كان شعرهم أرق من النسيم إذا أسرى، وأصفى من شعاع القمر، وأعذب من ماء الوصال، وهم كانوا أئمة الدين وأعلام الهدى.ـ
هذا عروة بن أذينة الفقيه المحدث شيخ الإمام مالك يقول:ـ
إن التي زعمـت فـؤادك ملها * * * خلقت هواك كما خلقت هوى لها
فبك الذي زعمـت بها وكلاكما * * * يبدي لصاحبه الصبـابـة كلها
ويبيت بين جوانحي حـبٌّ لهـا * * * لو كان تحـت فراشهـا لأقلها
ولعمرها لو كان حبـك فوقها * * * يوماً وقد ضحيـت إذن لأظلهـا
وإذا وجدت لها وساوس سلـوة * * * شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها
بيضاء باكرها النعيـم فصاغها * * * بلبـاقـة فـأدقهـا وأجلهـا
منعـت تحيتها فقلـت لصاحبي * * * ما كان أكثـرها لنـا وأقلها!
فدنا فقـال ، لعلهـا معـذورة * * * من أجل رقبتها، فقلت : لعلها
هذه الأبيات التي بلغ من إعجاب الناس بها أن أبا السائب المخزومي لما سمعها حلف أنه لا يأكل بها طعاما إلى الليل!.ـ
وهو القائل، وهذا من أروع الشعر وأحلاه، وهذا شعر شاعر لم ينطق بالشعر تقليدا، وإنما قال عن شعور، ونطق عن حب، فما يخفى كلام المحبين:ـ
قالت ( وأبثثتها وجدي فبحت به ): * * * قد كنت عندي تحب الستر، فاستتر
ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها: * * * غطى هواك وما ألقى على بصري
هذا الشاعر الفقيه الذي أوقد الحب في قلبه نارا لا يطفئها إلا الوصال:ـ
إذا وجدت أوار الحب في كبدي * * * عمدت نحو سقاء الماء أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره * * * فمن لحر على الأحشاء يتّقد!؟
وهذا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أحد فقهاء المدينة السبعة الذين انتهى إليهم العلم، وكان عمر بن عبد العزيز يقول في خلافته: لمجلس من عبيد الله لو كان حيا، أحب إلي من الدنيا وما فيها. وإني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال، فقالوا: يا أمير المؤمنين، تقول هذا مع شدة تحريك وشدة تحفظك؟ قال: أين يذهب بكم؟ والله إني لأعود برأيه ونصيحته ومشورته على بيت المال بألوف وألوف. وكان الزهري يقول: سمعت من العلم شيئا كثيرا، فظننت أني اكتفيت حتى لقيت عبيد الله فإذا كأني ليس في يدي شيء!.ـ
وهو مع ذلك الشاعر الغزل الذي يقول:ـ
شققت القلب ثم ذررت فيـه * * * هواك فليم فالتمام الفطور
تغلغل حب عشمة في فؤادي * * * فباديه مع الخافي يسيـر
تغلغل حيث لم يبلغ شـراب * * * ولا حزن ولم يبلغ سرور
أفسمعت بأعمق من هذا الحب وأعلق منه بالقلب؟ ولم يكن يخفي ما في قلبه، بل كان إذا لقيه ابن المسيب فسأله: أأنت الفقيه الشاعر؟ يقول: "لا بد للمصدور من أن ينفث" فلا ينكر عليه ابن المسيب. وهو القائل:ـ
كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم * * * ولامـك أقـوام ولومهـم ظلـم
ونمّ عليـك الكاشحون و قبلهـم * * * عليك الهـوى قد نم لو نفع النم
وزادك إغـراء بها طـول بخلها * * * عليك وأبلى لحم أعظمك الهـم
فأصبحت كالنهدي إذ مات حسرة * * * على إثر هند أو كمن سقي السم
ألا من لنفس لا تمـوت فينقضي * * * شقاها ولا تحيا حياة لها طعـم
تجنبـت إتيـان الحبيـب تأثمـا * * * ألا إن هجران الحبيب هو الإثـم
فـذق هجـرها إن كنت تزعم أنه * * * رشاد ألا يا ربما كذب الزعـم
ألا إن هذا هو الشعر!.ـ
بقلم: علي الطنطاوي